من لي بلسان عربيّ نقيّ يسمعه السامع فيطرب ويعجب، اللغةُ نقاءٌ وعذوبة، إنها كالماء العذب، يروي بأي حال شربته، لكن بعض الماء يفضل بعضًا، فبعضه يتجاوز مهمة الإرواء ليكون طعام طعم، بل شفاء سقم، وبعضه يكون للقلب راحة قبل أن يكون للجوف رواء، وبعضه تشربه على مضض وتزعجك شوائبه، وبعضه يضر الجسم ويكون فيه الهلاك، فمن لي بلغة نقية عذبة كالماء!
في مصر العروبة
أذكر أنه في عام ألفين حضرت أولَ مؤتمر لغة عربية في حياتي المهنية، وكنت قد أحسنت الإعداد، غير أني كنت متهيبًا، وكان المؤتمر في القاهرة، وفي مبنى جامعة الدول العربية، فزاد ذلك من رهبة الموقف، وكان أخشى ما أخشاه أن ينسل اللحن إلى كلماتي، أو يرافق الخطأ عباراتي، فأنا بين حماة العربية وسدنتها، لكن هذه الرهبة زالت حين سمعت متحدثًا من مصر كان حريصًا على النقاء اللغوي، وخشي أن ينتقد على طريقة نطقه لحرف الجيم بدون تعطيش كما ينطقه المصريون، فقال معتذرًا وليته ما فعل: “(وأعتزر) أعتذر عن عدم (تعتيش) تعطيش الجيم (المسرية) المصرية بين (سنايا) ثنايا (حديسي) حديثي (فهزه) فهذه لغة (أكرّها) أقرها مجمع اللغة العربية (بالكاهرة) بالقاهرة”.
لم أجادل الرجل في حروفه، وقبلت اعتذاره على علاته، ولزمت أدب الضيافة، وقدرت أن المنظمين قد رتبوا لنا عشاء على ظهر قارب نيلي، ويبدو أنهم أشعروا سائق القارب أن الجمع لغوي، فاختار لنا أغنية لأم كلثوم، ولا أشهر من قصيدة الأطلال، فصدح صوتها وهي تغني مطلعها:
يا فؤادي رحم الله الهوى كان صرحًا من خيال فهوى
فانتزعت الآهات، وكان مما غنته:
كيف زاك الحب أمسى خبرا وحديسا من أحاديس الكوى
وكانت تقصد طبعًا:
كيف ذاك الحب أمسى خبرا وحديثًا من أحاديث الجوى
فانتزعت الآهات أيضًا!! ولم أر أو أسمع من استهجنت أذنه هذا التلوث اللغوي.
إخواننا المصريون يصرون على أن لهجتهم المصرية المحببة وخفيفة الظل تحمل الفصاحة ولا يمكن أن يتنازلوا عن فكرة أن الجيم المصرية هي الأفصح، والأصفى، والأنقى، لكن المعيار في ذلك هو مقارنة طريقة النطق بما كانت عليه اللغة في الماضي، إذ غالبًا ما يُقاس الصفاء اللغوي بالوضع المثالي في الماضي، فهذا هو الفيصل بيننا وبينهم، الصفاء اللغوي.
صفائية اللغة
أتحدث عن صفائية اللغة متأثرًا بعبارة صاغها اللغوي الإيطالي برونو مِليوريني ليعبر بها عن الاستغناء عما لا يُوافق أصولَ اللغة من الألفاظ الدخيلة والمحدثة على حد سواء، وهي دعوة تشترك فيها جميع اللغات؛ إذ يرى الحريصون على النقاء اللغوي أن كل وضع جديد يُعتبر على الغالب تدهورًا أو انحطاطًا أو تأثرًا مكروهًا بلغات أخرى، وفي هذا نظر.
صفائية الفرنسية
الصفاء والنقاء اللغوي مطلبٌ عند جميع الشعوب، اللغة الفرنسية تتشدد في مقاومة التلوث اللغوي، وأنشأت منذ قرون الأكاديمية الفرنسية لتكون مراقبًا لغويًّا وحافظًا لنقاء اللغة، ويمكن أن نفهم من تصريح رئيس الأكاديمية أن مهمتها “التحذير من تدهور لا ينبغي أن يُنظر إليه على أنه أمر حتمي”، وقد كان هذا التصريحُ في سياق اعتراضه على دخول مصلطحات مثل (بيج داتا – درايف إن) في لغة المبرمجين الفرنسيين، وعد هذا خروجًا عن الصفاء اللغوي، فأصدرت الأكاديمية تعليماتها ونشرتها في الجريدة الرسمية للحكومة، وجعلتها ملزمة لموظفي الحكومة، ومع ذلك، من الصعب رؤية صدى هذه القرارات تتزايد في الاستخدام اليومي أو حتى عبر المواقع الإلكترونية أو الصحف الفرنسية، فلم تسر الجهود السابقة التي بذلتها الأكاديمية الفرنسية لاستبدال الإنكليزية بشكل جيد، وفشلت محاولتها لجعل الناس يستخدمون l’access sans fil à internet بدلاً من wi fi.
ودائمًا ما يستشهد المتحدثون والباحثون العرب في مجال السياسة اللغوية بقانون اللغة الفرنسية، ويرددون أن الفرنسيين يحبون لغتهم بشكل قوي، وهذا جزءٌ من التقاليد الفرنسية، وهو وتر يعزف عليه السياسيون في حملاتهم الانتخابية، وأثِرَ عن الرئيس ساركوزي في خطاب له قبل الانتخابات، أنه قال: “إن فرنسا بحد ذاتها هي لغة”.
صفائية الصينية
أرباب اللغة الصينية سعوا إلى بث انتماء الصينيين بلغتهم، فأصدرت إدارة النشر والصحافة في بكين قرارًا يحظر على الصحف والمجلات ودور النشر ومواقع الإنترنت استخدام الكلمات الإنجليزية، ويجبرها على ترجمتها باللغة الصينية، وعزت السبب إلى الحفاظ على نقاء اللغة الصينية.
صفائية الألمانية
د. جيرد شرامن الرئيس الثاني لجمعية اللغة الألمانية يسعى للحفاظ على نقاء اللغة الألمانية، أجرى دراسة على الرأي العام في ألمانيا، وخلص منها إلى أن 66% من الألمان يرفضون خلط اللغتين الألمانية والإنجليزية بعضهما ببعض، ويرى أن اللغة الإنجليزية مطلوبة من أجل التواصل العلمي العالمي، غير أن إقامة دورات تعليمية ومؤتمرات ولقاءات بالإنجليزية في الجامعات الألمانية أمرٌ غير مقبول إذا لم يكن هناك أشخاص لغتهم الأساسية هي الإنجليزية بين المشاركين، وليس من المقبول كذلك قيام الألمان بتقديم ترشيحاتهم للمنح الدراسية في الجامعات الألمانية باللغة الإنجليزية.
وتبث قناة ألمانية برنامجًا إذاعيًّا عنوانه “ضد مزج الألمانية بالإنجليزيةGegen Denklisch”، الكلمة الثانية في اسم البرنامج تذكرنا بمصطلح العربيزي، وتؤكد أن ما نعانيه من لغة العولمة لسنا فيه متفردين، وكلنا في الهم شرق.
صفائية الإيطالية
اختار الإيطاليون ممسحة مطاطية تستخدم لفصل الدقيق عن النخالة رمزًا لأكاديمية ديلا كروسكا التي أنشئت في فلورنسا عام 1583م، ديلا كروسكا يعني باللغة الإيطالية فصل قشر القمح من زهرة اللسان الرقيقة.
العربيزية والعرنجية بين الميوعة والتشدد
العربيزي مصطلح شاع وذاع، وقد طرق أذني كثيرًا، ورأيته دارجًا حتى عند مراهقي الشبكة المعلوماتية، لكن الجديد الذي سمعته مؤخرًا كان مصطلح العرنجية.
“العرنجية” عنوان كتاب أصدره الترجمان – كما سمّى نفسه – أحمد الغامدي، ووضع له عنوانًا جانبيًّا “بلسان عربي هجين”، وهذا المصطلح نحته المؤلف واستخدمه رفضًا للفصحى المعاصرة، حرصًا مبالغًا فيه على النقاء اللغوي، قال في مقدمته: “لم أزل –أعزَّك الله – أخبِّر من جالست بعجمة هذا الزمان، وبُعدِ أهله من الفصاحة، وأزعم فيما أزعم أن الفصحى التي يكتبون بها أقرب إلى لغات الإفرنج منها إلى لغة القرآن، فما يسمع مقالتي منهم أحدٌ حتى يرميني بطرفه ويُنْغِضَ رأسه كأنما نلته بسوء، فمنهم من يُنكر أن في عربية الزمان عجمةً ويجعلها ولغة الأوائل سواء، ومنهم من يرى العجمة فيها يسيرة هينة، ويحملني على المبالغة والتزيُّد”، وزعم الغامدي وأقسم في الكتاب “أن فصحى أهل العصر فاسدة كلها، وإنما هي عربية في ظاهرها، إفرنجية في باطنها؛ ولذلك سميتها: العرنجية، فهي لغة هجينة مذبذبة وبين عربي وإفرنجي، ووالله لم أشطط بزعمي أن الفصحى كلها فسدت”.
سبق الغامدي في الحرص على النقاء اللغوي علماء كثر، منهم: إبراهيم اليازجي (1906م) شيخ التصحيح اللغوي من العصريين في كتابه لغة الجرائد، وشاكر شُقير (1896م) في كتاب سماه: لسان غصن لبنان في انتقاد العربية العصرية، والشيخ محمد تقي الدين الهلالي (1987م) في كتاب تقويم اللسانين، وهذا يوصلني إلى قناعة مفادها أن استعادة النقاء اللغوي كما يرومه اليازجي وشقيّر والهلالي والغامدي أمر دونه خرط القتاد بتعبيرهم النقي لغويًّا، ومستحيل بالتعبير العرنجي.
إن جاز لي العودة إلى فكرة المقارنة بين البيئة واللغة، فإني أقرر أنه كما أنه ليس من المنطق أن نطلب سيارة توصلنا ومكيفًا يُنعشنا ثم نطلب بيئة خالية من انبعاثهما وضوضائهما، فليس من المنطق أن أطلب لغة للعصر واستخداماته، منفتحة على اللغات الأخرى ترجمة وتبادل فكر ثم أتوقف عند مصطلح وتركيب فأرفض استخدامها بحجة الحفاظ على النقاء اللغوي.
ولذا أجدني ميالاً إلى أن كثيرًا مما أورد هؤلاء المؤلفون من مفردات وتراكيب لا تشوه النقاء اللغوي، وإنه لا مانع من تقبله بالإباحة والاستحسان، وهذا رأيُ كثير من علماء اللغة منهم عبدالقادر المغربي نائب رئيس المجمع العلمي العربي في دمشق (1956م)، إذا قال مخاطبًا زملاءه في المجمع «وهناك أساليب أو تراكيب أعجمية تسربت إلى لغتنا مترجمة عن اللغات الأوربية، وهي مما لا يعرف العرب الأقدمون، وهذا كقولهم: ذر الرماد في العيون، عاش ستة عشر ربيعًا، وضع المسألة على بساط البحث، لا جديد تحت الشمس، ساد الأمن في البلاد، في نظير ذلك، وهذا مما استفاض بيننا، وتعاورته أقلامنا، ولا أظن أحدًا ينازع في جواز استعماله، اللهم إلا الذين أصيبوا بالوسواس اللغوي”.
سنظل مع النقاء
اللغة عالية الشأن، ولن يُترك للموسوسين تشكيلُ قواعدها أو رسم سياستها، هي رديفة العربي في رحلته الحضارية، بل هي مطيته، حرصه على نقائها واجب، وأوجب منه عدم إرهاق البيان واللسان بترسم تعبير يشق على الأفهام أو تلتوي به الألسن أو يظن به اللبس.