اللغة قيمة حضارية، بل هي الحضارة ذاتها، ولطالما كانت الحضارات تراكمية المعرفة، مستدامة العطاء.
الاستدامة مصطلحٌ مرتبط بالبيئة، لكنه ليس مقصورًا عليها، بل هو متصلٌ بأي شيء مادي أو معنوي يرجى بقاؤه ويُخشى نضوبه، وهو الحال الذي ينطبق على اللغات جميعها، وينسحب أيضًا على اللغة العربية، وإن ادعينا لها الخلودَ والصون السماوي.
ماذا نقصد بالاستدامة اللغوية؟
ليس ثمة ما يمنع من إسقاط مصطلح الاستدامة على البيئة اللغوية، التي نريدها خالية من التلوث اللغوي، بعيدةً عن مهددات انقراضِ أو ضمور عناصرها الحيوية، آمنة من طغيان المكون الدخيل على المكون الأصيل، فصناعة البيئة اللغوية خطوة أولى في النهوض بالواقع اللغوي، وهو أمر ليس بالعسير، بل إنه الأمر الطبيعي وهو الواقع الذي لا يجب تغييره أو تبديله.
تتضمن الاستدامة مفاهيمَ الترشيد والتقنين والصون، وهي مفاهيم حضارية يؤكد تمثلُها وتطبيقُها رقي المجتمع في سلم الحضارة، ويؤدي التفريط فيها إلى النضوب والعشوائية والانهيار، إن هذه المقاربة العلمية لمفهوم الاستدامة لن تتدخلَ في بنية اللغة أو قواعدها أو علومها أو حتى تاريخها، ولكنها ستلامس واقعها المجتمعي، وتبحث في العمل المتصل بها أهليًّا أو رسميًّا أو علميًّا مما يروم نهضتها أو إحياءها أو حمايتها باختلاف التعبيرات مع اتفاق الهدف.
تشير الاستدامة إلى تكامل القيمة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، وهذه مفاهيم حضارية لا تغيب عن الواقع اللغوي وميدان العمل له، فحقل اللغة والمجتمع من الحقول المعرفية التي يَكثر فيها الجدلُ العلمي وتتنوع فيها التطبيقات الحية؛ ولذا تعرف الاستدامة بأنها “دراسة كيفية عمل الأنظمة الطبيعية والتنوع وإنتاج كل ما تحتاجه البيئة الطبيعية لكي تبقى متوازنة” فالتوازن كلمة مفتاحية في مجال اللغة كما هي في مجال البيئة، وتفهم أكثرَ ما يمكن في المجتمعات التي تبرز فيها الثنائية اللغوية أو التعددية اللغوية، وحيث تتغول اللغات الدخيلة على الأصيلة، وتبتلع لغة العولمة لسان المجتمع الأصلي، وحين صكت مفوضية الأمم المتحدة للبيئة والتنمية هذا المصطلح في ثمانينيات القرن الماضي عرفته بأنه “الوفاء باحتياجات العصر الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية حاجاتها”.
ممارسات تضر بالاستدامة:
في واقع العمل المجتمعي والعلمي للغة العربية ممارساتٌ ليست بالفضلى، وأعمال ليست ذات جدوى، فإنها وإن كانت صادرة عن شخصيات أو مؤسسات عاملة ناصبة، إلا أن الأثر محدود والمردود ليس مؤثرًا، ومن هذه الممارسات:
إصرار كل مشروع جديد يعمل على تحسين الوضع اللغوي على البدء من الصفر، ملغيًا أو – بتعبير أكثرَ تهذيبًا – متجاهلاً الجهود السابقة والخِبْرات المتراكمة والتجارب المختلفة الناجح منها أو الفاشل، ربما تكون شهوة اكتساب صفة الأولية والريادة، هي المحركَ لكثير من الممارسات، وهو أمر لا يتفق مع الاستدامة التي تبني على ما سبق وتستثمر ما أنجز.
اتجاه الفكر اللغوي إلى التنظير والتقعيد على حساب العمل والإنجاز، فما أكثر مؤتمرات اللغة العربية وملتقياتها وندواتها!! وما أكثر المراكز والهيئات!! وليس أكثر ولا أطول من المحاضرات التي تشكو اللغة العربية سوى المداخلات التي تقدم عليها، ذات مرة تحدثت في عشر دقائق عن مشروع عملي ذي خطة مدروسة وأهداف معروفة وإجراءات واضحة ونتائج مضمونة، وانتظرت المداخلات التي تستوضح السبيل وتنيرُ الطريق، فكانت كل المداخلات تذكرني بأني نسيت التحدث عن أسباب ضعف اللغة، ومظاهر الخطر المحدق بها، ولم يرتض أيُّ متحدثٍ أن تقل مداخلته عن إحدى عشرة دقيقة؛ لأن اللغة العربية تستحق منا الكثير من الوقفات والكلمات!! وحين لمّحت للمستضيف عن ضيقي بهذا الأمر، فقال: “أتدري؟ من الجيد أنهم تكلموا لأن العشاء لم يكن جاهزًا، لماذا كانت كلمتك مختصرة؟”
الوقوف عند مظاهر الخلل والتهويل منه وإشاعة الطاقة السلبية، حتى لقد صار من العبارات المسكومة الممقوتة عبارات: اللغة العربية في خطر، اللغة العربية تحتضر، ولا بواكي للغة العربية، لقد صارت هذه العبارات تتناقل من جيل إلى جيل، وهذا يذكر بعبارة “العرب أمة لا تقرأ” التي روج لها لسنوات طويلة حتى جاء البحث العلمي والاستقصائي فأثبت أن العربَ كغيرهم من الأمم، فيهم من يقرأ، وفيهم من لا يقرأ.
عدم الانطلاق من خُطة استراتيجية، فالأمر في كثير من الأحيان خاضعٌ لاهتمام المنوط به العمل اللغوي، فإن كان متخصصًا في الأدب القديم وجه مشروعه المحوري نحو الأدب الجاهلي، وإن كان متخصصًا في اللغة والنحو عمل على تأليف كتاب في النحو زاعمًا أنه سيحل كل مشكلات اللغة العربية، وإن كان شاعرًا وجه اهتمامَ المؤسسة ومشاريعها للشعر.
عدم التكاملية في العمل، والعمل في جزر منفصلة، أدركت تأسيس أربعة معاهد للغة العربية، وثلاث مؤسسات معنية بالمناهج، بدؤوا عملهم بتأسيس منهج للتدريس، وأرادوه منهجًا فريدًا من نوعه، فاستغرقوا في تأسيسه سنواتٍ طويلة، واستنفدت ميزانياتهم، ثم أغلقت المؤسسة، فلا المعاهد دَرست، ولا المناهج أكملت، ما ضرهم لو انتقوا منهجًا وطبقوه أو طوروه مع الممارسة.
استنساخ التجارب استنساخًا غير مدروس، أذكر أني كنت في الرباط قبيل الاجتماع التأسيسي لجمعية حماية اللغة العربية في المغرب، وتحدثت مع صاحب فكرتها راجيًا إياه رجاء يقترب من التوسل أن يُغير الاسم، وبينت له أنه لولا الحرج الإداري والمجتمعي لما أبقيت اسم الحماية على جمعية اللغة العربية في الإمارات، وأذكر أنني استشرفت له المستقبل – وأنا الخبير بالشأن المغربي – مبينًا أنه إذا كانت اللغة العربية تحتاج إلى حماية، فماذا يقول أصحاب اللغة الأمازيغية؟
عدم تقييم الأعمال داخليًّا، وهذا أمر مهم لمراقبة الأداء ومنع الهدر، أعرف من عمل على اختبار الكفاءة اللغوية، وهو جهد يشكر من التفت إليه لأنه سد ثغرة في العمل المعاصر للغة العربية، ولكني فوجئت بأن عملاً مثل هذا خرج دون حوكمة داخلية أو مراجعة خارجية، فبقي محدود الانتشار، ضيق النطاق.
غياب النقد الخارجي ودائمًا ما تكون الإشادة هي أول القول اعتمادًا على النية السليمة، وقد رأيت أنه دائمًا ما تستقبل كلُّ مؤسسة جديدة تنظم لأخواتها في القائمة الطويلة من المؤسسات اللغوية بالترحاب، وينظر إلى مجرد التأسيس بأنه إنجاز، ماذا لو كان التأسيس عبئًا!! لا أقول إنه كذلك، ولكنه تساؤل، ويبقى التساؤل في النفس حتى تمرَّ سنة أو سنتان، فإن استمرت الإشادة أو ساد الصمت، فهذا مؤشر يضر بالاستدامة.
استخدام اللغة الخطابية العاطفية والبعد عن الإجراءات العلمية، هناك أمر يجب أن يدركَه العاملون في حقل اللغة العربية ومعلموها ومحبوها، وهو أن نظرتهم للغة العربية بأنها الأفضل والأجمل والأرقى أمر مضر باللغة وإن كان صحيحًا، ومواصلة الدندنة به يُحوله من كونه حقيقة أو رأيًا إلى ادعاء وزعم، يحتاج الخطاب اللغوي إلى ترشيد في استخدام المصطلحات البلاغية، يحتاج إلى مواكبة روح العصر، ومسايرة تجليات الخطاب المعاصر.
الفصل بين الممارسة والتنظير، انتشر مقطع لمعلمة لغة عربية تدعو زملاءها مدرسي المواد الأخرى لاستخدام اللغة العربية في التدريس، لقد كان حديثها بالعامية، وكان الأمر مثارَ تعليق من مشاهدي المقطع، والأمر هيِّن إذا ما قارنته بما ستسمعون، وأجد أنه يجب أن أذيع سرًّا يحوك في صدري ويملؤه غيضًا عن اجتماع على مستوى عال كان الخبراء يخططون فيه لمشروع باللغة العربية مستخدمين اللغة الإنجليزية في الحوار، وكل من في الاجتماع ناطق باللغة العربية لساناً أولاً أو مكتسبًا بإتقان.
أمام هذه الممارسات التي تبتعد عن مفهوم الاستدامة، يبحث الجادون عن حل، ويفكرون في ممارسات فضلى وأفكار مستدامة، وهو أمر ليس عصيًّا وليس مستحيلاً،
وفي هذا المقال أضع مجموعة أفكار:
النشر والقراءة:
من الاستدامة اللغوية في النشر أن تراعى الجدة والابتكار في المنشور، فلا نشر لمجرد إشباع شهوة النشر، ولا حفل توقيع لإظهار الوجاهة، ولا كتبًا تتطاير لتصل إلى يد من لا يقرأ.
ومن الاستدامة اللغوية أن يُصبح كلُّ كاتب مدققًا لغويًّا؛ فيريح اللغوي من تتبع همزات قطع لم توضع، وإزالة همزات وصل كتبت، وتتبع نقط التاء المربوطة وغير ذلك من مبادئ الكتابة الأساسية، عندها سيتفرغ اللغوي لمجاله بدلاً من إهدار وقته في معالجات لا تفيد الكاتب الذي يستمرئ الخطأ ويعتاده موقنًا أن وراءه عينًا تبصر وتنقح، إن أحدَ أبرز سلبيات العملية الآلية للتدقيق اللغوي هو إشاعة الكسل اللغوي في المجتمع، لقد صار في عرف الكاتب أن مهمته تتمثل في الكتابة فقط، فلا يهتم بالهمزات، ولا ينصب المفاعيل، وليس معنيًّا بعمل حروف الجر في جمع المذكر، فهناك شخص سوف يراجع كتابته، ويصوب أخطاءه.
ومن الاستدامة اللغوية أن نوقف التأليف في الموضوع الذي أشبع بحثًا، ونطرق آفاقًا جديدة في الكتابة والتأليف، كما أن من الاستدامة أن نطرق أبوابًا في القراءة جديدة، ونوجه النشء إلى القراءة الحرة الإثرائية بدلاً من ربطه بنصوص كتاب القراءة في مادة اللغة العربية.
الأسرة والطفل:
ومن الاستدامة اللغوية أن يمتد وقت تعلم العربية من المدرسة إلى البيت، ومن اللوح الصفي إلى اللوح الذكي، ومن المعلمين إلى الوالدين، ومن الكتاب المدرسي إلى عادة القراءة الحرة.
جميل أن يجتمع على الطفل مربيتان تعززان لغته، معلمة عربية في الحضانة ومربية عربية في المنزل، فإن تعذر ذلك فمتعلمة للعربية تؤهَّل لتؤهِّل، وبديع أن تتحدث الأسرةُ بلسان عربي تواصلاً وتفاعلاً، تعبيرًا عن المشاعر ونقلاً للأوامر، لكي نصنعَ اللسان العربي لدى الطفل العربي نحتاج عينًا باصرة وأذنًا واعية، لتصنع الأنشودة الشائقة والأغنية الذائقة، أليس عجبًا أن تصنع الإنجليزية أغنية بيبي شارك فتفوقَ مشاهداتُ إحدى نسخها عددَ سكان الكوكب، لسان الطفل عذب ذرب، واللغة كذلك، لكننا عجزنا أن ننتج تراكيبَ تتقبلها الطفولة العربية.
الإعلام والتقنية:
ومن الاستدامة اللغوية أن تتحلى التقانة عبر المواقع الإلكترونية والتطبيقات الذكية بالحرف العربي، وأن تكون اللغة الرصينة الرزينة أولى مؤهلات الإعلامي، في زمن الإعلام الجديد، قد تكون الأداة الإعلامية التواصلية رافدًا لتعليم اللغة، وقد يكون المنشور الإعلامي الناجح المكتوب بلغة العصر الرائقة سفيرًا لتنمية الذائقة، وعاملاً لنمو المحتوى الإعلامي على الشبكات والقنوات، ليكون العمل للغة العربية مستداما يجب ألا يقف عند النص اللغوي التخصصي، بل يجب النظر إلى كل نص إنتاج بالعربية بأنه رافد للمحتوى العربي، داعم لنهضة اللغة العربية.
إن اختيارَ اللغة العربية خيارًا في واجهة المتصفح والموقع والتطبيق أمر ذو بال، وله أثر في استدامة الجهد المجتمعي للغة، وكم كان محزنًا وموجعًا ما قاله لي أحد رواد التقنية العرب من أنه بذل جهده وسخر إمكانات شركته واستثمر عَلاقاته ومعارفَه لإقناع منصة ذكية شهيرة بتعريب أدواتها ومصطلحاتها، ففعلوا ثم ساءلوه بعتب: “لقد فعلنا ولكن المستخدم في الوطن العربي ما زال يختار الإنجليزية خيارًا مفضلاً”.
الدراسات والبحوث:
ومن الاستدامة اللغوية تقليل المؤتمرات وتقنينها، وإكثار البحوث وتنويعها، فالبحث غاية والمؤتمر وسيلة، ومن التقصير في حق اللغة العربية أن نجعلَ الوسيلة غاية، فيكون اللقاء الأخوي بين الباحثين هو أجمل مكاسب المؤتمر وأثمنها.
ألا من مؤتمر يأتي من بين زحمة المؤتمرات فيغيرَ واقع اللغة العربية، ألا من بحث يَبْهر حتى لتحسبُه نظرية علمية أو فتحًا مبينًا، ألا من دراسة نظرية تنتج مشروعًا ومبادرة عملية، هنا تأتي الاستدامة من جهد المؤتمرات والدراسات، فمرحى بمؤتمر مستدام النتاج، جميل الأثر، عظيم النفع، بعيدٍ عن التكرار واجترار الأفكار، وأسمع به وأبصر!!
ومن الاستدامة اللغوية إشراكُ البحث الإجرائي في علاج مشكلات تعليم اللغة أو وضعها الاجتماعي أو دراسة حالتها أو التخطيط لنهضتها، فالبحثُ العلمي مناط كل تقدم في كل حقل، ومن الواجب وجود مرجعية علمية في اقتراح موضوعاته ووضع آلياته.
التوعية:
من الاستدامة اللغوية أن يكونَ الاحتفاءُ بها ليس حكرًا على يومها العالمي، وإنما تكون هي سيدة الأيام وأميرة السنوات وملكة الدهر، استثمار مكسب المجموعة العربية في اليونسكو بانتزاع اعتراف عالمي بيوم للغة العربية بين لغات العالم الست منجز رائع، وكي لا يتحولَ المنجز إلى إخفاق، وجب التفكير باستدامة الاحتفاء، وعدم التركيز على الثامن عشر من ديسمبر ليكون يوم التوعية والمؤتمرات والأنشطة والاحتفالات والمشاريع.
وفي التوعية المستدامة يجب أن يكونَ المنشور الرائج مصنوعًا بلغة سليمة بلا أخطاء في النطق أو في الرسم أو في الفكر.
إن تحديدَ الثابت والمتحول في العمل على ترقية وضع اللغة العربية مجتمعيًّا يقود إلى توعية مبنية على أساس علمي لا عاطفي، فالعاطفة متقلبة والعلم دائم مستدام.
المجامع والجامعات:
ومن الاستدامة اللغوية في أعمال الجامعات والمجامع العلمية صناعة صف ثان وثالث من اللغويين، وهو أمر لن يتحقق بإغلاق أقسام اللغة العربية في الجامعات بسبب عدم الإقبال عليها، ولن يتحقق بحصر دور أقسام اللغة العربية في التدقيق اللغوي على مكاتبات ومراسلات ومشاريع الجامعة، ولن يتحقق بالعمل على مشاريع علمية مكررة بفرق علمية مختلفة أو ربما تكون مكررة هي الأخرى، يستنزف بها الجهد، ويهدر بها النقد، بلا عائد مسترد.
التعليم والمناهج:
ومن الاستدامة اللغوية تحديثُ وتطوير طرائق تدريس اللغة العربية، اللغة دائمة بل خالدة، لكن طرائق تعليمها متغيرة، وما كان يصلح لزمن ماض لا يصلح لهذا الزمن، البقاء عليه ليس ممنوعًا، لكنه ليس واجبًا، الفكر اللغوي القائم على الاستدامة يرى أن كلَّ معلم هو معلم لغة، وكل نص مكتوب أو حديث مسموع هو فرصة لاكتساب اللغة وتطوير مهاراتها، وكل تواصل اجتماعي محفز لاستخدام اللغة استخدامًا واعيًا: استماعًا وتحدثًا وقراءة وكتابة، الفكر اللغوي القائم على الاستدامة يستثمر الإنتاج المعرفي في القانون والإدارة والعلوم الشرطية ليكون منطلقًا لاكتساب المهارة اللغوية: الكتابية منها والشفاهية.
الاستدامة اللغوية تعني العودةَ إلى اكتساب اللغة فطرة وبداهة، وممارسة ومقابسة، دون توغل في تدريس القواعد وحفظها، بل استنتاجًا لها واستخدامًا، استخدام يؤصل المعرفة، وممارسة تعزز المدارسة.
الاستدامة اللغوية تتطلب الحفاظ على وقت المتعلم من الهدر المتمثل في دراسة ما لا يدخل في دائرة اهتمامه واستخدامه، وتحقق كذلك حفظ جهد المعلم في التركيز على إنتاج المعرفة وتعليمها بدلاً من الوقوف على مهام تقليدية تتمثل في التصويب المتكرر للأخطاء المتكررة.
لتحقيق الاستدامة في التعليم ينبغي أن يكونَ كلُّ معلمٍ معلمَ لغة، فلا تكون اللغة العربية مسؤوليةَ معلمها، بل مسؤوليةَ زملائه الذين يدرسون علومهم بالعربية، ومسؤوليةَ مديره الذي يدير مؤسستَه التربوية معطيًا اللغة العربية أولوية وصدارة.
المؤسسات والمجتمع:
لا ينهض باللغة فرد. اللغة جمعية، جماعية، مجتمعية. وهي جامعة وموحدة. ولأنها لغة أمة، فمن الاستدامة أن تهتم بها الأمة، لا تلقى المسؤوليةُ على عاتق المؤسسات اللغوية، فكل مؤسسات المجتمع معنية بالشأن اللغوي، كالبيئة تمامًا، فالبيئة تموت إذا قصرنا العمل البيئي على المؤسسات البيئية لأن غاية جهد المؤسسات البيئية هو تأخير الموت وتهيئة الوضع لإعلان الوفاة، أما إذا عمل الناشطون للبيئة مع المجتمع بمؤسساته المختلفة والأفراد بأعمارهم المتفاوتة من أجل صناعة وعي بيئي، فستحيا البيئة، وما صح على البيئة يصح على اللغة، فالسعي للاستدامة اللغوية سعي مؤسسات وفكر مجتمع.