هل اللحن قديم أم حديث؟
اللحن في الجاهلية
احتار الباحثون في اللغة عبر التاريخ، متى وقع أولُ لحن في اللغة العربية الفصحى؟! وهل بالفعل ظهر لحن لغوي في الجاهلية أو لا؟
عندما تفكر في الأمر للوهلة الأولى تظن أن اللحن لم يظهر في الجاهلية، خاصة أن الفصاحةَ هي ديدن العرب الجاهليين، والبلاغة هي دأبهم، وهذا ما أكده الزبيدي حين قال: “ولم تزل العرب تنطق على سجيتها في صدر إسلامها وماضي جاهليتها، حتى أظهر الله الإسلام على سائر الأديان، فدخل الناس فيه أفواجًا، وأقبلوا إليه أرسالاً، واجتمعت المتفرقة، واللغات المختلفة، ففشى الفساد في اللغة العربية”.
على الرغم من أن العديدَ من الباحثين يؤكدون أنه لا لحن في الجاهلية، وأن اللحن قد ظهر منذ صدر الإسلام والعصور التالية له، فإننا بتتبُّع كتبِ المصادر وما قرأناه مما كُتب عن ذلك من الباحثين عند لغويينا قديمهم وحديثهم، فإننا نؤكد أن اللغة في الجاهلية لم تسلم أيضًا من اللحن! وذلك على الرغم من أن أكثر الدارسين يعدون اللحن الجاهلي من قبيل اللغات الشاذة أو النادرة، على اختلاف قبائل العرب.
لكن بتتبع الأسباب التي دفعت البعض إلى الإقرار بأنه لا لحن في الجاهلية، وأنه ظهر في العصر الإسلامي من اختلاط المسلمين بغيرهم من الفتوحات، فإن تلك الأسباب كانت موجودة أيضًا قبل ظهور الإسلام، حيث كان العرب يخالطون غيرهم من أصحاب الأعراق والألسنة الأخرى.
كما كان العرب ومنهم قبيلة بكر مجاورين للقبط والفرس، وقبيلة عبد قيس وأزد عُمان كانوا بالبحرين مخالطين الهند والفرس، وكلهم استحدثوا تراكيب وتصاريف لغوية دخيلة على الفصحى، وعلى الرغم من أن اللغويين القدامي لم ينقلوا هذا اللحن في كتبهم كنوع من أنواع المحافظة على العربية وفصاحتها، فقد ظهرت في بعض المصادر نماذج تؤكد وجود هذا اللحن.
ومن نماذج ذلك اللحن ما وجهه (طرفة بن العبد) وهو صبي إلى (المسيب بن علس الضبعي)؛ فقد مرّ المسيب بمجلس بني قيس بن ثعلبة، فاستنشدوه، فأنشدهم:
ألا عِم صباحًا أيُّها الربعُ واسلم نُحييك عن شحط وإن لم تتكلم
فلما بلغ قوله:
وقد أتناسى الهمّ عند ادّكاره بناجٍ عليه الصيعرية مُكدِم
كُميتٍ كنازٍ لحمُها حِميريةٍ مواشكةٍ ترمي الحصا بمُثلم
قال طرفة – وهو صبي يلعب مع الصبيان ــ (استنوق الجمل) وذلك لأنّ (الصيعرية) علامة تكون في عنق الناقة لا الجمل، وبعبارة أخرى أنّ الشاعر قد وّظف صيغة في غير موضعها، فيكون بذلك قد ابتعد بها عن أصل وضعها في عُرف اللغة وهذا ما يعرف باللحن.
ومن نماذج ذلك أيضًا ما في شعر الأعشى وأوس بن حجر وامرئ القيس وغيرهم ما يحمل كثيرًا من الكلمات الفارسية.
اللحن بعد ظهور الإسلام
جرى اللحن على الألسنة وشاع واتسعت مظاهره منذ ظهور الإسلام، خاصة مع اتساع رقعة الدولة الإسلامية في عصر الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وما تلاه من عصور، يقول أبو بكر الزبيدي متحدثًا عن تلك الفترة: “فاختلط العربي بالنبطي والتقي، والحجازي بالفارسي، ودخل الدين أخلاط الأمم وسواقط البلدان، فوقع الخلل في الكلام وبدأ اللحن في ألسنة العوام”.
حتى إن الخليفة عمرَ بن الخطاب نفسه خشي على العرب الفاتحين من أن يختلطوا فينخرفوا وتنحرف ألسنتهم ويضيعوا بين الشعوب المغلوبة التي تفوقهم عددًا، فحرم عليهم امتلاك الضياع في الأقاليم الجديدة أو اتخاذها وطنًا لهم ومُقامًا لأسرهم، وحضهم على إقامة بيوتهم على أطراف المدن، لكن أيضًا لم تسلم لغتهم من اللحن.
مظاهر اللحن في عصر صدر الإسلام
بدءًا من صدر الإسلام اتسعت مظاهر اللحن اللغوي وتنوعت، ولقد كانت اللغة الفارسية من أكثر اللغات التي أثرت على اللحن في العربية، خاصة مع اختلاط المسلمين بالفرس في العراق، ومن أمثلة ذلك: عبيد الله بن زياد والي العراق ت67هـ، الذي كان ينطق عربية غير فصيحة؛ لأنه نشأ في الأساورة مع أمه مرجانة، وكان زياد قد زوجها من شيرويه الأسواري، ومن مظاهر لكنته أنه كان ينطق الهاء بدلاً من الحاء، والكاف بدلاً من القاف، وأنه قال عن الأرض: اسْتُ الأرض، وأنه أمر الجند يومًا فقال لهم افتخوا سيوفكم أي سُلُّوها، وكان هذا دافعًا إلى هجاء يزيد بن مفرغ له بقوله:
ويومَ فتحتَ سيفك من بعيدٍ أضعْتَ وكلُّ أمرِك للضياع
هناك مظهر آخر من مظاهر اللحن بعد ظهور الإسلام، وهو إيثار السلامة بترك الإعراب، وتسكين أواخر الكلمات، وقد شاعت هذه الظاهرة عند الأميين الذين لا يُحسنون الإعراب والضبط، كإسماعيل بن أبي خالد الكوفي ت146هـ، كان طحانًا، وذكروا أنه كان ينطق الأسماء الخمسة على حالها المرفوع دائمًا، فكان يقول: “عن أبوه”.
وليس الأميين فقط، بل لم يسلم من اللحن علماء اللغة ورواتها، فقد حكم يونس بن حبيب على حماد الراوية ت155هـ جامع المعلقات بأنه: كان يكذب ويلحن ويكسر، أي لا يقيم الوزن العروضي، وهذا أبو عمرو بن العلاء ت154هـ – وهو من علماء التنقية اللغوية – قد قصده طالب ليقرأ عليه، فصادفه بكُلَّاء البصرة وهو مع العامة يتكلم بكلامهم لا يفرَّقُ بينه وبينهم من عينه، واعترف أبو عمرو نفسه بكثرة أخطائه حين قيل له في حرف قاله: ألا ترى هذا خطأ يا أبا عمرو؟ فقال: لو كنت كلما أخطأت وقعت في حجري جوزة لامتلأ حجري جَوْزًا ولم يذكر الحرف.
هل كان عند العرب قديمًا متحدثون يفوقون سواهم في نقاء الأسلوب؟
على الرغم من أن اللغة العربية تأثرت بالعديد من اللغات بحكم المجاورة الجغرافية للعديد من الأجناس والأعراق والألسنة المختلفة، وهذا – كما أشرنا – أدى إلى ظهور اللحن في لغة العرب عبر العصور، فقد كان هناك متحدثون لا يقعون في ذلك اللحن، وكانت لغتهم فصيحة نقية سالمة.
ولقد كان سيدنا محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم أفصحَ العرب قاطبة، لا تجدُ عربيًا يضاهيه فصاحة ونقاءَ لغة، قال صلى الله عليه وسلم “أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش، وأني نشأتُ في بني سعد بن بكر”، ولقد ذكر ابن جني في الخصائص أن رجلاً لحَن عند الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: “أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل”.
كما كان هناك أيضًا من المتحدثين الفصحاء والبلغاء من لا يلحنون في اللغة، امتازت لغتهم بالنقاء واشتهر أمرهم في الآفاق والأنحاء، منهم الأصمعي الذي سمع رجلاً يدعو: (يا ذو الجلال والإكرام)، فقال له: مِنْ كم تدعو؟ قال: من سبع سنين دأبًا، فلم أرَ الإجابة، فقال: ما اسمُـك؟ قال: ليْث، فأنشأ يقول: ينادي ربَّه باللحن ليثٌ لذاك إذا دعاهُ فلا يُجيبُ فقال له: قل يا ذا الجلال والإكرام.
وقد وُصف الأصمعي بأنه أحفظ الناس وأعرفهم بالشعر واللغة وأنه قوي الحجة، وأن أكثر علمه على لسانه، قال: حماد بن إسحاق: سمعت أبي يقول: ما رأيت أحدًا قط أعلم بالشعر من الأصمعي، ولا أحفظ لجيده، ولا أحضر جوابًا منه، ويُروى عن الأصمعي العجائب.
ومما يُذكر في فضله: أنه كان رحمه الله إمامَ زَمَانِه في اللُّغَة، بَحْرًا فيها، عالِمًا بالشِّعرِ والغَرِيبِ والأخْبَارِ والمُلَحِ، له يَدٌ غَرَّاءُ في اللُّغَةِ.
وكان حَسَنَ العِبَارَة واللَّفْظ؛ حتى قال الشَّافعيُّ عنه: (ما عَبَّر أحَدٌ عن العَرَبِ بأحسَنَ مِن عِبَارَة الأصْمَعِي)، وكان ذا فِطْنَة، وحُضُورِ ذِهْن، وذَكَاءٍ مُتَّقِدٍ، ومَعْرِفَة واسِعَة باللُّغَة والشِّعْر والنَّوادِرِ.
كذلك ممن يروى عنهم أنهم لم يلحنوا قط، وتميزوا بنقاء لغتهم وفصاحتهم، قال ابن عساكر في كتابه: (تاريخ دمشق)، قال الأصمعي: لم يلحنوا في جد ولا هزل:
الشعبي وعبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف وابن القرية، والحجاج أفصحهم.